السيدة خديجة بنت خويلد صبر عظيم وعطاء كريم

بسم الله الرحمن الرحيم

إذا كان السبق في الإسلام مُقرِّب فخديجة أقرب المقرَّبين. وإذا كان الإيمان نجاة فهي أول المؤمنين. وإذا كان الرحم الولود خيراً من العقيم فالخير كلُّ الخير بل أصل الخير ومعدنه هو الرحم الذي استودع فيه من أمست سيدة نساء العالمين. إلى غير ذلك من التضحيات والإيثار والعطاءات المتجلية في شخصية السيدة خديجة بنت خويلد عليها السلام.‏

السيدة خديجة بنت خويلد عليها السلام

* حاربتها قريش لاختيارها النبي (صلى الله عليه وآله)‏
لم تكن السيدة خديجة عليها السلام عنصراً مغموراً في قريش بل كانت معروفة حسباً ونسباً وشرفاً وثراء. وقد رغب فيها الرجال وهي زاهدة فيهم وترفَّعت عما في أيديهم. فقد كانت راغبة في الصادق في الحديث والعظيم في أمانته والكريم في أخلاقه ووجدت هذه الصفات مجتمعة كلها في شخص محمّد (ص). ولم تنتظر مجيئه بل هي جاءت إليه باذلة له نفسها وما تملك، فعابوا عليها ما فعلت. وقد وتدت أمام أعاصير ألسنتهم قدميها وأعارت صاحب الأوصاف الملكوتية عقلها.‏
وبالرغم من ذلك لم تسلم من الألسن وحتى من الموقف حين قررت نساء قريش مقاطعتها وهجرانها حتى بالسلام والكلمة، فقد سأل الفضل بن عمر الإمام الصادق (عليه السلام) عن كيفية ولادة السيد الزهراء (عليها السلام) فأجابه: «إن خديجة سلام الله عليها لما تزوج بها رسول الله (ص) هجرتها نسوة مكة فكن لا يدخلن عليها ولا يسلمن عليها ولا يتركن امرأة تدخل إليها (1)». ولقد طال هذا الهجران أياماً وشهوراً حتى أنها في اللحظة التي احتاجت فيها لهن في وقت الولادة بعثت إليهن ليجئن إليها وليلين منها ما يلي النساء من النساء فأرسلن إليها: عصيتنا ولم تقبلي قولنا وتزوجت محمّداً يتيم أبي طالب فقيراً لا مال له فلسنا نجيء ولا نلي من أمرك شيئاً (2)…‏

* وهب النفس والمال للنبي‏
من المؤكَّد أنَّها حينما أرادت الزواج من محمّد (ص) كان ذلك قبل بعثته الشريفة بفترة زمنية تقارب الخمسة عشر سنة ولذا لم يكن إقدامها على هذا الزواج لتنال شرف زوجها الرسول والنبي بل تزوجت الرجل الذي يتحلى بالصفات التي سبق ذكرها. ووجدت أن هذه الشخصية يجب أن يسخَّر لها كلُّ شيء في الوجود. وبناءاً عليه قالت لعمِّها ورقة بن نوفل: «خذ هذه الأموال وسر بها إلى محمّد وقل له إن هذه جميعها هدية له… وإن مالي وعبيدي وجميع ما أملك وما هو تحت يدي فقد وهبته لمحمّد» (3). وقد أقدمت على الزواج منه وهي تعلم بفقره وأنه لا مال له حيث أجابته حين قال لها أنت ملكة لا يصلح لك إلا الملوك: والله يا محمّد إن كان مالك قليلاً فمالي كثير. ومن يسمح لك بنفسه كيف لا يسمح لك بماله؟ وأنا ومالي وجواريّ وجميع ما أملك بين يديك وفي حكمك لا أمنعك منه شيئاً، وحق الكعبة والصفا ما كان ظني أن تبعدني عنك، ثم ذرفت عبرتها (4).‏

* مال خديجة جزء من المعركة‏
وقد كان لهذا المال دور كبير وأثر عظيم في نشر الرسالة المباركة. وقد بذله رسول الله (ص) في جميع الموارد التي تتطلب مالاً. وكان يشكل رافداً اقتصادياً لتثبيت القلوب وكشف الهموم إلى كل من يحتاج إليه.‏
وقد برز عظيم الأثر لهذا المال خلال سني الحصار في شعب أبي طالب إذ كان من العوامل الرئيسية التي أدت إلى صمود المسلمين حينها حتى أنه قد قيل إنَّ خديجة وأبا طالب أنفقا جميع مالهما (5). وكفى فخراً للسيدة خديجة ولمالها مدح الله ورسوله حيث قال (ص): «ما نفعني مال قط كما نفعني مال خديجة» وأشار القرآن الكريم إليه بقوله: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} (الضحى:8) أي بمال خديجة (6).‏

* أول مؤمنة في الإسلام‏
السيدة خديجة هي أول مسلمة لكونها المرأة الأولى التي صدَّقت النبي (ص) في دعوته. ولها الرتبة الأولى في صفوف النساء لأنَّها السبَّاقة بالإيمان برسالة السماء في الوقت الذي كذَّبه فيه ولم يؤمن برسالته الناس. وقد شهد بذلك الذي لا ينطق عن الهوى حيث قال لإحدى نسائه عندما وجدته يبكي خديجة: ما يبكيك على عجوز حمراء من عجائز بني أسد؟ فقال (ص): «صدقتني إذ كذبتم وآمنت بي إذ كفرتم وولدت لي إذ عقمتم». وقد انعكس صدقها عملاً وترجم إيمانها فعلاً خارجياً فكانت أول من أسبغ وضوءه، وأول امرأة صفت قدميها لصلاة الجماعة خلف رسول الله (ص). ويدل عليه ما جاء عن أمير المؤمنين (عليه السلام): كنت أول من أسلم فمكثنا ثلاث حجج وما على وجه الأرض خلق يصلي ويشهد لرسول الله بما آتاه غيري وغير ابنة خويلد رحمها الله (7).‏

* الولاء للإمام علي (عليه السلام)‏
لم تسمع السيدة خديجة (عليها السلام) آية التبليغ لرحيلها قبل ذلك بثلاثة عشر عاماً إلا أنها هي المرأة الأولى بل الشخص الأول الذي بايع علياً. وإذا كانت ثاني اثنين قد صدقت رسول الله وآمنت بنبوته فهي أول الناس إيماناً واعتقاداً بأمير المؤمنين (عليه السلام) ولسانها أول لسان لهج بذكر الإمامة. وهذا ما ورد إلينا من الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) حينما سئل عن بدء الإسلام فأجاب عن ذلك في حديث طويل إلى أن قال: «قال رسول الله (ص): يا خديجة هذا علي مولاك ومولى المؤمنين وإمامهم بعدي قالت: صدقت يا رسول الله قد بايعته على ما قلت أشهد الله وأُشهدك وكفى بالله شهيداً عليماً (8)».‏

* سلام من الله إليها‏
إنَّ الله سبحانه وتعالى لا يضيع عمل عامل من ذكر أو أنثى. وقد أعطى خديجة ما تستحق من الثواب الجزيل والمنزلة الرفيعة على جهادها وصبرها. وكفاها فخراً أن يُحمل إليها السلام من رب السلام فعن أبي جعفر قال: «حدث أبو سعيد الخدري أن رسول الله قال: إن جبرائيل قال لي ليلة أسري بي حين رجعت وقلت: يا جبرائيل هل لك منا حاجة؟ قال: حاجتي أن تقرأ على خديجة من الله ومني السلام… فقال لها الذي قال جبرائيل فقالت: إن الله هو السلام ومنه السلام وإليه السلام وعلى جبرائيل السلام» (9). بل هي إحدى النساء الأربعة اللواتي تبوَّأنَ مكاناً علياً بين نساء أهل الدنيا كما في الحديث المشهور على لسان رسول الله (ص) قال:«حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمّد وآسيا بنت مزاحم امرأة فرعون» (10).‏
وختاماً، يكفي السيدة خديجة من الفضل والكرامة أنها كانت المستودع لسيدة نساء العالمين وصاحبة الرحم الطاهر والمطهر الذي أودع فيه خلاصة ثمار الجنة استعداداً لتكوين الصورة الملكوتية لسيدتنا فاطمة الزهراء عليها السلام. وليس هناك حِجر في الكون أفضل من حِجرها إذ احتضن المولودة التي لا نظير لها من الأولين والآخرين. وقد بارك الله المحتضنة والمحتَضَنة التي بث منها الأنوار الساطعة والشموس الطالعة لأئمتنا (عليهم السلام).‏