يوافق العاشر من شهر رمضان ذكرى وفاة أم المؤمنين، خديجة الكبرى بنت خويلد (ع)، فقد تزوجها النبي (ع)، وكانت أول امرأة أعلنت إسلامها، وبهذه المناسبة الأليمة نسلط الضوء على إيمانها وتصديقها للنبوة والإمامة.
يستفاد من أحاديث الشيعة وأخبار السنة أن خديجة كانت عالمة بكتب الرواية المعروفة، وأنها كانت معروفة -من بين نساء قريش- بالعقل والكياسة إضافة إلى كثرة المال والثراء والضياع والعقار والتجارة التي عرفت بها ، وكانت تدعى منذ ذلك الحين بـ “الطاهرة” و”المباركة” و”سيدة النسوان”، بل إنها كانت ممن ينتظر خروج النبي(ص) ويعد له عدته، ولطالما سألت “ورقة” وغيره من العلماء عن علائم النبوة.
وكان أول ما طلبته من النبي(ص) حينما التقت به الكشف عن خاتم النبوة. وقد تبين -في الجملة- في حديث حنة أم مريم مدى الجمال والجلال والكمال والإفضال التي كانت لخديجة (ع). ولقد كانت خديجة مۆمنة راسخة الإيمان، ثابتة الجنان، مستعدة لقبول الإيمان، وقد روي أنها آمنت بالنبي(ص) في عصر اليوم الذي بعث فيه وصلت معه، وروى الشيعة أن النبي بعث يوم الاثنين فآمن به علي(ع) نفس ذلك اليوم، وأظهرت خديجة الإيمان يوم الثلاثاء(1).
وفي الخبر: إنها أول من آمن بالله ورسوله وصدقت بما جاء به(2). قال أبو عمرو والحاكم بن عتبة: هي أول من آمن وعلي أول من صلى إلى القبلة(3).
وفي النهج: وقال علي(ع): “ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوة، ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه فقلت: يا رسول الله! ما هذه الرنة؟ فقال: هذا الشيطان قد آيس من عبادتك; إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلا أنك لست بنبي، ولكنك وزيري، وإنك لعلى خير”(4). فصل فيه فضل إن من مفاخر خديجة(ع) ومناقبها المخفية على أغلب الخواص والعوام قبولها ولاية أمير المۆمنين وإمامة أولاده الأمجاد المعصومين(ع)، مع أنها لم تكن يومها مكلفة بقبول الولاية، بمعنى أن هذا التكليف لم يكن فرضا واجبا إلا بعد وفاة الرسول(ص)، وذلك إنها سمعت -بأذنها- بإمامة الأئمة الطاهرين من أبناءها المعصومين يوم ولادة فاطمة حينما ذكرتهم واحدا بعد واحد ، فعرفت بذلك مقام أمير المۆمنين(ع) ومنزلته، وكانت تسعى جاهدة من أجل تنفيذ ما سمعت وإنجازه وإنجاحه، والأفضل أن نروي هنا حديثا سارا ورد عن طرق الشيعة الإمامية; لتتضح -لبعض الغافلين- كمال الكمالات التي تمتعت بها خديجة سلام الله عليها.
روي أن رسول الله(ص) دعى خديجة(ع) وقال لها: “إن جبرئيل عندي يقول لك إن للإسلام شروطا وعهودا ومواثيق:
الأول: الإقرار بوحدانية الله جل وعلا.
الثاني: الإقرار برسالة الرسول.
الثالث: الإقرار بالمعاد والعمل بأحكام هذه الشريعة.
الرابع: إطاعة أولي الأمر والأئمة الطاهرين واحدا بعد واحد، والبراءة من أعدائهم.
فصدقت خديجة بهم واحد بعد واحد وآمنت بالرسول(ص) فأشار إلى علي ثم قال: “يا خديجة! هذا علي مولاك ومولى المۆمنين وإمامهم بعدي”(5). ثم أخذ العهد منهما، ثم وضع علي يده فوق يد رسول الله، ووضعت خديجة يدها فوق يد علي فبايع لعلي(6). وكذا روي عن الصادقين الباقرين(ع) في حمزة سيد الشهداء: أن النبي(ص) دعاه عشية شهادته في أحد إلى بيعة أمير المۆمنين وأبناءه الغر الميامين من أولهم إلى قائمهم(عج) أرواحنا له الفداء، فقال حمزة: آمنت وصدقت ورضيت بذلك كله، وكان الرسول(ص) قد دعا عليا وحمزة وفاطمة في حديث طويل أخرجه السيد(رحمه الله)(7). وبهذا يتضح معنى قوله(ص): “ما كمل من النساء إلا أربعة أولهن خديجة” لأن تلك المخدرة آمنت بأصول الدين وفروعه وأحكامه واحدة واحدة، وآمنت بروح الأصول والفروع كلها، وآمنت بالميزان الذي به تقبل وترد الأعمال والعقائد، حيث أنها آمنت بإمامة الأئمة(ع) في وقت لم تك خديجة بعد مكلفة بها، نظير إيمان فاطمة بنت أسد حينما جلس الرسول(ص) على شفير قبرها وقال لها: “ابنك ابنك علي، لا جعفر ولا عقيل”(8) مع أنها لم تكن مكلفة بعد بقبول الإمامة.
ونظيره ما روي في البحار أن رسول الله(ص) قال: إذا سأل نكير ومنكر في القبر من فاطمة الزهراء(ع) عن إمامها فإنها تقول: “هذا الجالس على شفير قبري بعلي إمامي: علي بن أبي طالب(ع)”( 9). وهذه المقامات خاصة بالأولياء الكاملين من أهل هذا البيت، حيث تكون الولاية فرض وحتم على فواصلهم، وإن كانت متأخرة عنهم; لأنها شرط كمال الإيمان، وبدونها تكون الشريعة قالبا خاويا لا روح فيه وكلاما فارغا لا معنى له. ولهذا نزل يوم الغدير -عند تنصيب أمير المۆمنين(ع) للخلافة- قوله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ»(10) وقوله تعالى: «وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ»( المائدة: 67) والآيتان تشهدان لنا نحن الشيعة الإمامية. الحاصل: لقد أودع الله في تلك الذات القدسية -يعني ذات خديجة المقدسة(ع)- ودائع نفيسة وذخائر شريفة لم يودعها -في ذلك الزمان- في ايحاءات أخرى من سكان السماوات والأرض; وأعظم تلك الودائع الجوهر الثمين لولاية أمير المۆمنين(ع) حيث أنها آمنت وصدقت بها قبل الإعلان عنها وقبل خروجها من القوة إلى الفعل، وبذلك سبقت خديجة إلى الإيمان بجميع مراتبه ومقاماته وتفصيلاته، وهذا المستوى من الإيمان الكامل لم يتيسر لعموم الناس، لأن أمر الإمامة كان مخفيا على أهل ذاك الزمان إلى يوم غدير خم، حيث رفع عنها الستار بعد نزول قوله تعالى: «وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ»( المائدة: 67.) فبشرت النبي(ص) برفع الخوف ودفع أذية القوم، وعندها صار قوله تعالى: «فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ»(11) عليه حكما منجزا.
ويكفي خديجة شرفا أنها عاشت مع النبي(ص) أربعا وعشرين سنة، فلم يختر عليها امرأة حتى ماتت، فلما هاجر(ص) تزوج في فترة وجيزة عدة زوجات وظل يلهج باسم “خديجة” ويترحم عليها ويستغفر لها ويحترم أرحامها ويقربهم ولم يغفل عن ذكرها أبدا، وكان يرى في فاطمة حنان أمها وحبها وودها وإحسانها فيلزمها ويحبها ويقبلها ويتذكر فيها أمها. وفي الخبر أن فاطمة امتنعت يوما عن الطعام وقالت لا آكل حتى اعلم أين أمي خديجة، فنزل جبرئيل الأمين وقال: إن خديجة في الجنة بين آسية وسارة(12).
المصادر:
1- البحار 16/ 20 ح 19 باب 5 و 17/ 239 ح 2 باب 2 وفيهما أن النبي(ص) بعث يوم الاثنين وأن عليا(ع) صلى معه يوم الثلاثاء. ولا تعارض بين الخبرين.
2- البحار 16/ 10 ح 12 باب 5.
3- انظر البحار 38/ 258 ح 49 باب 65.
4- نهج البلاغة 301 خ 192.
5- تجد تفصيل الخبر في المجلد السادس من بحار الأنوار عن السيد بن طاووس عن كتاب الوصية لعيسى بن المستفاد عن موسى بن جعفر(ع): إن رسول الله(ص) دعا عليا وخديجة وذكر لهم أصول الدين وفروعه الواحد تلو الآخر حتى آداب الوضوء والصلاة والصيام والحج والجهاد وبرالوالدين وصلة الرحم وغيرها من الواجبات والمحرمات ثم أخذ العهد منهما… (من المتن)
6- البحار 18/ 232 ح 75 عن الطرف للسيد ابن طاووس… ينقل الحديث كاملا.
7- البحار 22/ 278 ح 32 باب أحوال عشائره وأقربائه والحديث.
8- البحار 6/ 241 ح 60 باب البرزخ والقبر وعذابه وسۆاله والحديث.
9- البحار 43/ 58 ح 50 باب 3 والحديث.
10- المائدة: 3.
11- الشرح: 7; وقد وردت قراءة بلفظ (وانصب) بالكسر في تفسير الكشاف وتفسير البحر المحيط. انظر معجم القراءات القرآنية 8/ 188 إعداد الدكتور أحمد مختار عمر وعبد العال سالم مكرم.
12- البحار 16/ 1 ح 1 باب 5 والحديث.
- سيعجبك أيضاً