خديجة الكبرى… منبع الوفاء

شريكة في الوفاء عظيمة في العطاء صابرة مجاهدة كان لها دور فاعل في ترسيخ دعائم الدين وإعلاء كلمة رب العالمين، سيدة تشرف بأن يذكرها التاريخ ويزين صفحاته بأسمها الخالد.

صاحبة القلب الرحيم رمز الإخلاص والتضحية، ام تفاخر الجميع بها وبما قدمت تلك هي زوج الرسول(ص) وام السيدة البتول(ع) الطاهرة النقية خديجة الكبرى(ع) ابنة خُويلد ابن أسد ابن عبد العُزّى ابن قُصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر، والدتها هي فاطمة بنت زائدة بن أصمّ بن رواحه بن حجر بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤي بن غالب بن فهر، كانت سيّدة جليلة مشهود لها بالفضل والبرّ.

قالت : يا رسول الله الوصية الثانية أوصيك بهذه – و أشارت إلى فاطمة – فإنها غريبة من بعدي فلا يؤذيها أحد من نساء قريش و لا يلطمن خدها و لا يصحن في وجهها و لا يرينها مكروهاً .

هذه السيّدة العظيمة تنتسب إلى قريش ويلتقي نسبها بنسب الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله عند جدّها الثالث من أبيها، وعند جدّها الثامن من أمّها .

وُلدت خديجة بمكة المكرمة قبل عام الفيل الذي ولد فيه النبي (صلى الله عليه وآله) بخمس عشرة سنة، تزوجها رسول الله (ص) وعمرها أربعون سنة وعمر رسول الله (ص) يومئذ خمس وعشرون سنة على الأشهر. وكان زواجه بها قبل البعثة بخمس عشرة سنة، فحينما بعث النبي (ص) بالرسالة كان عمره الشريف أربعون سنة، وكان عمر خديجة خمساً وخمسين سنة، فبقيت مع النبي (ص) قبل بعثته خمس عشرة سنة، وبعد البعثة عشر سنين، حيث قبضت سلام الله عليها في السنة العاشرة من البعثة في العاشر من شهر رمضان وعمرها يومئذ خمس وستون سنة وعُمر النبي (ص) خمسون سنة وهي أول امرأة تزوجها رسول الله (ص) ولم يتزوج عليها مدة حياتها بالإجماع.

أسماؤها وألقابها عليها السلام

للسيّدة خديجة عليها السلام ألقاب كثيرة تعكس عظيم نبلها وشديد قدسها، من هذه الألقاب: الصدّيقة، المباركة، أمّ المؤمنين، الطاهرة، الراضية، المرضية.

وكانت (ع) تعطف على الجميع، وتحنو عليهم كأمّ رحوم ، فكانت أمّاً لليتامى والمساكين، وأمّاً للمؤمنين، لا تبخل عن إسعادهم قلبها الرؤوف ينبع بالمحبة والعطف على الجميع وهي كوثر الخلق، وسمّيت أيضاً أمّ الزهراء أو ينبوع الكوثر.

حكيمة قريش والزواج

اشتهرت السيّدة خديجة عليها السلام بالجمال والكمال والثروة والشرف الرفيع والعلم والحلم وصلابة في اتّخاذ القرار، ودقة في الرأي، ورأي سديد، وعقل راجح وفكر صائب، ومن الطبيعي أنّ من تجتمع لها صفات الكمال والفضل يتسابق الرجال إلى خطبتها والزواج بها

وهذا ما كان مع السيّدة خديجة حيث سارع رؤوس بني هاشم وأقطابها، لا بل وصل الأمر إلى ملوك اليمن وأشراف الطائف، الذين سعوا عبر إغداق الأموال والهدايا للفوز بقلبها لكنها رفضت الجميع ووقع اختيارها على أمين قريش ومؤتمنها وتشرح السيّدة خديجة عليها السلام سبب هذا الاختيار بالقول: يا بن عمّ إنّي رغبت فيك لقرابتك منّي وشرفك من قومك وأمانتك عندهم وصدق حديثك وحسن خلقك.

الخطبة والزواج

تمت تلك المراسيم بحضور سيد مكة وزعيمها أبو طالب عليه السلام وكان أول المتكلمين إذ ألقى خطبة ذكر فيها عظمة منزلة النبي الكريم صلى الله عليه وآله وشرفه وفضله، ثمّ خطب خديجة للنبي، بعدها استأذنت خديجة عمّها عمرو بن أسد  كبير قومه فأعلنت موافقتها. ثم قام عمّها فخطب في الحاضرين خطبة بليغة ختمها بقوله: زوّجناها ورضينا به. بعد ذلك أعلنها على الملأ بكل صراحة: من ذا الذي في الناس مثل محمد.

ثروة السيّدة خديجة

لسنوات طويلة كانت القوافل التجارية للسيّدة خديجة عليها السلام من أكبر قوافل قريش، وقد ربحت من تجارتها ثروات طائلة، وضعتها جميعها تحت تصرّف الرسول الكريم صلى الله عليه وآله، لينفقها فيما يراه مناسباً.

يقول العلامة المامقاني: لقد وصلنا بالتواتر عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله أنّه قال: ما قام الدين إلاّ باثنتين: سيف عليّ وأموال خديجة، وبذلك أسهمت خديجة وبشكل فاعل بتثبيت دعائم الرسالة المحمدية السمحاء.

خديجة (ع) تلد النور

رزقت السيّدة خديجة عليها السلام من الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله ولدين هما (القاسم وعبد الله)، وبنت واحدة، فاختطف الموت ولديه وهما صغيران وأبقى على بضعته كوثر الخلق ووالدة أئمة النور والهدى  سيدة النساء الزهراء البتول عليها السلام، وكانت بذلك خير وعاء لخير ذرية، يتّفق أهل السير والمؤرخين على أنّ الرسول الكريم صلى الله عليه وآله أنجب من السيّدة خديجة عليها السلام ومارية القبطية فقط، حيث أنجبت الأخيرة له ابنه (إبراهيم) الذي فارق والده المكرّم وهو في الثالثة من عمره.

حكمة السيّدة خديجة

يكفي في رجاحة رأيها وصلابة فكرها ما رواه المؤرّخون من أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان يشاورها في جميع أموره.

كان عليه الصلاة والسلام يتطلّع إلى أن تُسلم قريش لتنجو من عذاب الله وسخطه، فكان يجابه بعنادهم ورفضهم وإصرارهم على باطلهم، فيعتصر قلبه الشريف ألماً وحزناً، في تلك اللحظات العصيبة كان يلجأ إلى بيت العطف والرسالة فيشكو معاناته إلى زوجه وشريكة همّه السيّدة خديجة عليها السلام، فكانت تواسيه وتشدّ من أزره بكلماتها الحكيمة ونظرات العطف والحنان فتسكن من آلامه وأحزانه.

في مراحل الشدّة والمشقة والحصار الاقتصادي في شعب أبي طالب، كان لأموال السيّدة خديجة عليها السلام الدور الكبير والحاسم في التخفيف من آثار الحصار الجائر الذي فرض على آل أبي طالب، فكانت هذه السيدة الجليلة تشيع الأمل والفرح في قلوب القوم وترفع الحزن والشقاء عن كاهلهم.

وعلى الرغم من أنّ الله تعالى كان سنداً وظهيراً لنبيه الكريم ولم يقطع عنه حبل كرمه ولطفه طيلة تلك الفترة العصيبة، إلاّ أنّ وجه السيّدة خديجة عليها السلام المضيء والمشرق، ونظراتها المتفائلة كانت تجعله أكثر إصراراً وعزماً على مواجهة قدره والاستعداد لأيّام أصعب وأقسى لقد أسهمت تلك الأموال بارتفاع راية الإسلام المحمدي وانتشاره فكانت بذلك خير معين وخير زوجة وخير شريك.

أولى النساء

لقد كانت السيّدة خديجة عليها السلام على دين أبيها إبراهيم عليه السلام وذلك قبل أن يُبعث الرسول الكريم صلى الله عليه وآله، وكانوا يُعرفون بالحنفاء، وقد آمنت في اليوم الأول من بعثة المصطفى صلى الله عليه وآله، كما جاء في الحديث الشريف: أوّل من آمن بالنبي صلى الله عليه وآله من الرجال علي عليه السلام ومن النساء خديجة عليها السلام.

عندما رجع الرسول الكريم صلى الله عليه وآله من غار حراء وهو ينوء بثقل الرسالة العظيمة كانت السيّدة خديجة عليها السلام في استقباله حيث قالت له: أيّ نور أرى في جبينك؟ فأجابها: إنّه نور النبوّة، ومن ثمّ شرح لها أركان الإسلام، فقالت له: آمنت وصدّقت ورضيت وسلّمت.

أول من صلى مع الرسول (ص)

كانت السيّدة خديجة أول سيّدة في الإسلام تصلّي، إذ أنّه لسنوات طويلة انحصر الإيمان بالدين الإسلامي بخديجة عليها السلام والإمام علي عليه السلام، وكان الرسول الأعظم يذهب إلى المسجد الحرام ويستقبل الكعبة وعلي عليه السلام إلى يمينه وخديجة خلفه، وكان هؤلاء الثلاثة هم النواة الأولى لأمّة الإسلام، وكانوا يعبدون معبودهم الواحد إلى جانب كعبة التوحيد.

أوّل من والى علياً (ع)

كان الإمام علي عليه السلام منذ سنينه الستّ في بيت النبي وتحت ناظري السيّدة خديجة عليها السلام ورعايتها، لذلك كان لها حقّ في رقبته هو حقّ الأمومة. وعندما شرح الرسول الكريم صلى الله عليه وآله لزوجه مفهوم الولاية وموقعها السامي، وطلب إليها أن تؤمن بولاية أمير المؤمنين علي عليه السلام، استجابت فوراً حيث قالت بصراحة ووضوح: آمنت بولاية علي وبايعته.

كانت السيدة خديجة عليها السلام تفيض بالحنان والعطف على الإمام علي عليه السلام، لدرجة أنّها قالت فيه: إنّه أخي، وأخو النبي، أعزّ الناس إليه، وقرّة عين خديجة الكبرى عليها السلام.

أول سيّدة تأكل من فاكهة الجنّة

نعم، إنّها أول سيّدة مسلمة تأكل من فاكهة الجنّة حيث ناولها الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله بيده الشريفة عنقوداً من عنب الجنّة.

الزوجة الوحيدة

السيّدة خديجة عليها السلام هي الزوجة الوحيدة من بين أزواج النبي الكريم صلى الله عليه وآله التي أنسلها واستمرّ نسلها الطاهر حتى يومنا هذا. لقد ارتأت المشيئة الإلهية أن تكون السيّدة خديجة وعاءً لأنوار الإمامة وضيائها. والرسول الكريم صلى الله عليه وآله في معرض بيان عظم منزلة هذه السيّدة الجليلة، نجده يخاطب ابنته الأثيرة على قلبه الزهراء البتول عليها السلام بقوله: يا ابنتي، إنّ الله تعالى جعل خديجة وعاء لنور الإمامة.

ولم يتزوّج الرسول الأعظم (ص) على السيّدة خديجة (ع) في حياتها أبداً حتى ماتت لقد كانت كوثر النبوة الصافي. وفي اللحظات الختامية من عمر هذه السيّدة الجليلة، بشّرها زوجها الحاني بأنّها ستكون زوجه في الجنّة أيضاً.

فضائل ام المؤمنين

ومن فضائلها أن النبي صلى الله عليه واله وسلم كان لا ينسى أبدا ودها  ويحفظ عهدها  في أهلها فيبعث لهم بما يأتيه من الهدايا  ولا يتركهم إذا قسم بين أصحابه العطايا . وقد يذبح الشاة بنفسه ثم يقطع أعضاءها  ويخص بها أصدقاءها وأقرباءها .

وكان يكثر من ذكرها  وينشر بين الجميع طيب خبرها وحسن برها ويثني عليها أحسن الثناء  ويستغفر لها الله ويكثر لها من الدعاء  ويتحدث عن ما لها من الشرف والفضل والكمال  ويسترسل في ذلك الحديث دون ملل ولو طال .

ولقد وردت عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله أحاديث كثيرة في مناقب وأفضال السيّدة خديجة عليها السلام، نسلّط الضوء على بعضاً منها:

قوله (ص) يا خديجة إنّ الله عزّ وجلّ ليباهي بك كرام ملائكته كل يوم مرارا.

وقوله (ص) والله ما أبدلني الله خيراً منها قد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدَّقتني إذ كذبني الناس  وواستني بمالها إذ حرمنـي الناس، ورزقني الله أولادها وحرمني أولاد الناس.

وقال (ص) خير نساء العالمين: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله.

وعنه صلى الله عليه واله انه قال: خير نساء الجنة: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم (امرأة فرعون).

وقال صل الله عليه وآله: خديجة سبقت جميع نساء العالمين بالإيمان بالله وبرسوله.

وقول (ص): أحببتها من أعماق فؤادي وأحبّ من يحبّ خديجة.

كما روي عنه أنه قال: لم يرزقني الله زوجة أفضل من خديجة أبداً.

وقال (ص): لقد اصطفى الله عليّاً والحسن والحسين وحمزة وجعفر وفاطمة وخديجة على العالمين.

وقال صلى الله عليه وآله يخاطب عائشة: لا تتحدّثي عنها هكذا، لقد كانت أوّل من آمن بي، لقد أنجبتْ لي وحُرِمتِ.

وفاة السيّدة خديجة

توفّيت أم المؤمنين السيّدة خديجة (عليها السلام) بمكة في السنة العاشرة من البعثة في اليوم العاشر من شهر رمضان على رواية، وقد حزن عليها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) كثيراً.

وقد ورد ان رسول الله (ص) دخل على خديجة (ع) وهي في حال الاحتضار: فشكت إليه شدة كرب الموت فبكى رسول الله (صلى الله عليه و آله) ودعا لها، ثم قال لها: إقدمي خير مقدم يا خديجة أنت خير أمهات المؤمنين وأفضلهن وسيدة نساء العالمين إلا مريم، وآسية امرأة فرعون أسلمتك يا خديجة على كره مني وقد جعل الله للمؤمنين بالكره خيراً كثيراً، ألحقي يا خديجة بأُمك حواء في الجنة، وبأُختك سارة أُم إسحاق التي آمنت بالله جل جلاله… إقدمي يا خديجة على أختك أم موسى وهارون التي ربط الله على قلبها بالصبر لتكون من المؤمنين، وأوحى الله إليها كما أوحى إلى الأنبياء والمرسلين… وإقدامي على أختك كلثم بنت عمران أخت موسى وهارون… وإقدمي على أختيك يا خديجة على آسية ومريم لا مثيل لهما من نساء العالمين، وقد جعلهما الله مثلاً للذين آمنوا من الرجال والنساء يقتدي بهما كل مؤمن ومؤمنة. وإن ربي زوجنيهما ليلة أسري بي عند سدرة المنتهى فهما ضراتك يا خديجة….

فضحكت خديجة وهي ثقيلة بالموت وقالت له: هنيئاً لك يا رسول الله بارك الله لهما فيك وبارك الله لك فيهما، الحمد لله الذي أقر عينيك بهما، وما هما ضرتاي يا رسول الله لأنه لا غيرة بيننا ولكنهما أختاي فقال النبي (صلى الله عليه و آله): هذا والله الحق المبين وتمام اليقين والفضل في الدين… الخ.

وروى المازندراني الحائري في كتابه (شجرة طوبى) ص22 ج2 مرسلاً قال: ولما أشتد مرض خديجة قالت: يا رسول الله إسمع وصاياي: أولاً فإني قاصرة في حقك فأعفني يا رسول الله، قال (ص) حاشا وكلا ما رأيت منك تقصيراً فقد بلغت جهدك وتعبت في داري غاية التعب ولقد بذلت أموالك وصرفت في سبيل الله جميع مالك. ثم قالت يا رسول الله الوصية الثانية أوصيك بهذه وأشارت إلى فاطمة فإنها غريبة من بعدي فلا يؤذيها أحد من نساء قريش.

وأما الوصية الثالثة فإني أقولها لابنتي فاطمة وهي تقول لك فإني مستحية منك يا رسول الله فقام النبي (صلى الله عليه وآله) وخرج من الحجرة، فدعت فاطمة وقالت لها: يا حبيبتي وقرة عيني قولي لأبيك: إن أمي تقول أنا خائفة من القبر. أريد منك رداءك الذي تلبسه حين نزول الوحي عليك تكفنني فيه فقالت ذلك لأبيها فسلم النبي (ص) الرداء إلى فاطمة وجاءت به إلى أمها فاسترت به سروراً عظيماً.

فلما توفيت خديجة أخذ رسول الله (ص) في تجهيزها وغسلها وحنطها فلما أراد أن يكفنها هبط عليه الأمين جبرئيل وقال: يا رسول الله إن الله يقرؤك السلام ويخصك بالتحية والإكرام ويقول لك: إن كفن خديجة من عندنا فإنها بذلت مالها في سبيلنا، ودفع إليه كفناً جاء به من الجنة، فكفنها رسول الله (صلى الله عليه وآله) بردائه الشريف أولاً وبما جاء به جبرئيل ثانياً. فكان لها كفنان كفن من الله وكفن من رسول الله (صلى الله عليه و آله).

تلك هي خديجة (ع) فسلام عليها وعلى أهل بيتها.